إثيوبيا
ومصر من البلدان الجذرية.. وقائع جغرافية وتاريخية لا يمكن تجاوزها، المصب المصري
لا يمكن أن يواجه الهضبة الإثيوبية، وصراع مصري إثيوبي يجب أن يجد له حلولاً عاجلة
وإبداعية،علماً بأن تاريخ التعاون الأفريقي انطلق في الخمسينيات بتقارب مصري –
إثيوبي بقي يطغى على منظمة الوحدة الأفريقية، التي بدأت اليوم تشهد نزعات إقليمية
أخرى، سواء من خلال تآلفات في شرق القارة أو غربها.
وعلى الرغم من هذه الحقائق، إلا أن أحداً لا يفكر في خطوة لإنقاذ القارة الأفريقية والبحر الأحمر والمجموعة العربية من افتراق مصري – إثيوبي يحتاج إلى كثير من العقلانية والموضوعية لتجنبه. الأداء الدبلوماسي والإعلامي أدى إلى تشويش كبير في تفهم النتائج التي سيسفر عنها وجود سد النهضة في إثيوبيا، وعملياً فإن الحصة المائية لمصر والسودان تبدو عرضة للتأثر لأسباب كثيرة أخرى، بجانب سد النهضة، فمن ناحية فإن ارتفاع معدلات التبخر في منابع النيل سيسبب تراجعاً في التدفق المائي للنهر، وكذلك فإن الزيادة السكانية في الدول التي تشترك في مسار النهر من شأنه أن يمثل ضغوطاً أخرى تستدعي إعادة النظر في تقاسم مياه النيل على أسس واقعية، وربما يتطلب الأمر مشروعات أخرى في دول المنبع وأيضاً في مصر.
أزمة سد النهضة يمكن تلافيها إلى حد بعيد بدخول مصر شريكا استراتيجيا في بناء السد، شريكا في التمويل والبناء، لاختصار فترات تحويل مياه نهر النيل الأزرق، بحيث يبدأ تشغيل السد وبفعالية كبيرة خلال فترة زمنية أقصر، وهو ما يضمن أن الاختلالات التي يمكن أن يحدثها السد على سلوك النهر ستختزل، ولكن تصاعد الأداء الإعلامي والسياسي الشعبوي، الذي يحث على مواجهة إثيوبيا ويلوح بالحلول العسكرية أحياناً يمنع الفكر النخبوي من التقدم بحلول عملية، فلا يمكن للحكومة المصرية أن تتصرف باحترافية وواقعية في ظل وجود تسخين غير منضبط لوضع مصر، في صراع وجودي مع بلد آخر مؤثر ومهم في القارة الأفريقية، فمن جهة لا يدرك كثير من القائمين على التسخين في الصحف والفضائيات المصرية أن إثيوبيا بلد كبير بتعداد سكاني يفوق مصر، ومن جهة أخرى يتغيب عن التيار الشعبوي حقيقة أن الإثيوبيين في الطرف الأقوى لأنهم أصحاب الخيار في هذه الحالة، فتحويل النهر مسألة أسهل كثيراً من بناء سد كهروميكاني، بمعنى أن ضرب مصر للسد يمكن أن يدفع إثيوبيا وبإمكانياتها الذاتية لأن تبقي على تحويل النهر دائماً.
الاستخفاف الذي يمارسه تيار الحلول الشعبوية يليق بمباراة مرتقبة في كرة القدم، أما العلاقات بين بلدين مؤثرين في الإقليم، في مفصل على قدر كبير من الحساسية، فيلزمها تعامل مختلف وأكثر حنكة واحترافية، ويشتمل أيضاً على قفزة استراتيجية للأمام، فالنيل يبدو اليوم متجهاً لشيخوخة مبكرة نتيجة التغيرات المناخية والاحتباس الحراري، ويجب البحث في إطلاق استثمارات كبرى للمحافظة على مياهه، بحيث يجري استثمار أكبر كمية من المياه قبل وصولها مهدرةً إلى المتوسط، ومشروع توشكى المتعثر يبدو أحد الحلول الممكنة، ويبدو أن اصطناع مجموعة من البحيرات والمستودعات المائية الكبيرة على مسار النهر وحولها مجتمعات زراعية هو أكبر التحديات التي من المحتمل أن تتحول إلى فرص استثمارية دولية.
الخبراء المائيون اختفوا فجأة من المشهد، لا أحد يريد أن يستمع لهم، وكثير منهم حافظوا على أمانتهم العلمية لتجنب النقد الذي أصبح ينصرف لمهاجمة الشخص والتفتيش في نواياه والتشكيك في إخلاصه، بدلاً من الانصباب على مناقشة أفكاره وطروحاته ونقدها، ويبدو أن قول كلمة حق أمام سلطان جائر لم تعد هي الشجاعة، فمواجهة شعب متحمس وما يحمله من تصورات متوارثة تتطلب شجاعة أكبر وأعمق.
خضعت مقولة هيرودوت «مصر هبة النيل» لفهم مغلوط، فكأن النيل وجد من أجل مصر وحدها، والحقيقة أن مصر هي الإبداع الأكمل للنيل، الذي يدخل بانسيابية إلى الوادي المصري ويجد على جانبيه فرصة ليعبر عن نفسه بعيداً عن الأجواء الاستوائية، وبذلك كانت فرصة قيام حضارة في المصب المصري كبيرة، مقارنة بأي مكان في العالم القديم، وذلك لا ينفي أن شعوب النيل كلها كانت أكثر تحضراً من بقية الشعوب الأفريقية. والمصريون بحاجة إلى تفهم النيل على امتداده لا مجرد النيل من منظورهم الخاص، وضمن هذه الرؤية يمكن لمصر أن تتزعم إقليماً مهماً ووعداً من العالم، تكون إثيوبيا درة التاج فيه، كذلك كانت مصر في عهدها الملكي تتفهم العمق الاستراتيجي، وحاولت المرة بعد الأخرى أن تستولي على المنابع ففشلت المرة بعد الأخرى، فكانت المبادرات في مرحلة عبد الناصر تستوعب طبيعة العلاقات مع أفريقيا ومدى تأثيرها على موقع مصر القيادي على مختلف المستويات، فقيادة مصر العربية ومكانتها في المتوسط تستند إلى عمقها الافريقي، وبدونه ليست مصر إلا امتداداً للصحراء الكبرى.
الساداتية ضربت القيادة المصرية لإقليم النيل، وتصرفت كثيراً في النيل وكأنه جزء من الممتلكات الشخصية للسادات، فالرئيس المصري يهدي اسرائيل مشروعاً لم تطلبه ولم تطمح له مع ترعة السلام التي أرادها أن تمتد من النيل إلى القدس، وبالطبع فإنه لم يتشاور أصلاً مع شركائه الأفارقة، ولم يكترث بردود أفعالهم. ولما كان نظام مبارك لا يرى نفسه إلا امتداداً لسياسة السادات الخارجية التي لا ترى العالم إلى من منظور الرضا الأمريكي، فإنه استمر على إهماله للعمق الأفريقي، بما استفز مشاعر عدائية تجاه مصر لم تكن مصر أساساً معنية بمتابعتها، عدا عن تفهمها ومعالجتها. واليوم يأتي الحصاد المر لتلك السياسة التي وصلت إلى مرحلة العبثية، بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا ليضع الرئيس المصري بمنتهى الشخصنة والنزق كلا من إثيوبيا والسودان في خانة أعدائه، ويدفع المصريين لصراعات جانبية أدت إلى تشويه المفاهيم، كما هو الأمر مع التشوه الذي دخلته مصر في فضائها العربي.
نزعات الانكفاء على القومية المصرية ذات الطابع المحلي ظهرت بصورة موسمية خلال القرن الماضي، وكانت في كل مرة تثبت فشلها في دولة اصطنعها التاريخ لنفسه ورأتها الجغرافيا الثمرة المشتهاة، والوجود في بناية آيلة للسقوط، ونعني أقاليم مصر الأفريقية والعربية، لا يعالج بأن يغلق الباب والشبابيك اعتقاداً بأن الطابق الذي تشغله مصر لن يتأثر بالانهيار وسيتجنبه بمجرد أن يصم آذانه عن التحذيرات التي تنطلق من كل مكان.
مصر حالة نادرة بين كل دول العالم، فربما كانت الدولة الأكثر شعبية في محيطها، وثمة اعتراف بمكانتها لا يرتقي لها أي شك من جيران مصر، لا ألمانيا استطاعت أن تتحصل على ذلك من الفرنسيين أو حتى النمساويين، ولا الصين أخذته من كوريا أو فيتنام، فالمسألة أن مصر بحاجة لأن تعترف بأهمية أبعادها وأن تتفهم احتياجات الشعوب الأخرى التي تشترك معها في تاريخها ومصيرها، والأمر يتطلب تجرداً من مشاعر دعاة المحلية، ومن يستفيدون من وجود عداء غير مبرر ليوجدوا عدواً يعطيهم موقعاً للمزايدة بالوطنية وممارسة الوصاية على الشعور الشعبي، الذي يختلف بالضرورة وبصورة أكيدة عن الوعي الذي تسرقه المصالح الضيقة والرؤية القاصرة للفاعلين السياسيين، الذين يبحثون عن مصالحهم الخاصة في ظل تغييب الميثاق الأكثر عمومية وعمقاً، ففي زمن يرفض فيه مرتضى منصور ما كتبه سيد حجاب عن مصر في دستور المصريين الجديد، فإن الأمور تسير إلى الكارثة بإصرار وعنجهية.
وعلى الرغم من هذه الحقائق، إلا أن أحداً لا يفكر في خطوة لإنقاذ القارة الأفريقية والبحر الأحمر والمجموعة العربية من افتراق مصري – إثيوبي يحتاج إلى كثير من العقلانية والموضوعية لتجنبه. الأداء الدبلوماسي والإعلامي أدى إلى تشويش كبير في تفهم النتائج التي سيسفر عنها وجود سد النهضة في إثيوبيا، وعملياً فإن الحصة المائية لمصر والسودان تبدو عرضة للتأثر لأسباب كثيرة أخرى، بجانب سد النهضة، فمن ناحية فإن ارتفاع معدلات التبخر في منابع النيل سيسبب تراجعاً في التدفق المائي للنهر، وكذلك فإن الزيادة السكانية في الدول التي تشترك في مسار النهر من شأنه أن يمثل ضغوطاً أخرى تستدعي إعادة النظر في تقاسم مياه النيل على أسس واقعية، وربما يتطلب الأمر مشروعات أخرى في دول المنبع وأيضاً في مصر.
أزمة سد النهضة يمكن تلافيها إلى حد بعيد بدخول مصر شريكا استراتيجيا في بناء السد، شريكا في التمويل والبناء، لاختصار فترات تحويل مياه نهر النيل الأزرق، بحيث يبدأ تشغيل السد وبفعالية كبيرة خلال فترة زمنية أقصر، وهو ما يضمن أن الاختلالات التي يمكن أن يحدثها السد على سلوك النهر ستختزل، ولكن تصاعد الأداء الإعلامي والسياسي الشعبوي، الذي يحث على مواجهة إثيوبيا ويلوح بالحلول العسكرية أحياناً يمنع الفكر النخبوي من التقدم بحلول عملية، فلا يمكن للحكومة المصرية أن تتصرف باحترافية وواقعية في ظل وجود تسخين غير منضبط لوضع مصر، في صراع وجودي مع بلد آخر مؤثر ومهم في القارة الأفريقية، فمن جهة لا يدرك كثير من القائمين على التسخين في الصحف والفضائيات المصرية أن إثيوبيا بلد كبير بتعداد سكاني يفوق مصر، ومن جهة أخرى يتغيب عن التيار الشعبوي حقيقة أن الإثيوبيين في الطرف الأقوى لأنهم أصحاب الخيار في هذه الحالة، فتحويل النهر مسألة أسهل كثيراً من بناء سد كهروميكاني، بمعنى أن ضرب مصر للسد يمكن أن يدفع إثيوبيا وبإمكانياتها الذاتية لأن تبقي على تحويل النهر دائماً.
الاستخفاف الذي يمارسه تيار الحلول الشعبوية يليق بمباراة مرتقبة في كرة القدم، أما العلاقات بين بلدين مؤثرين في الإقليم، في مفصل على قدر كبير من الحساسية، فيلزمها تعامل مختلف وأكثر حنكة واحترافية، ويشتمل أيضاً على قفزة استراتيجية للأمام، فالنيل يبدو اليوم متجهاً لشيخوخة مبكرة نتيجة التغيرات المناخية والاحتباس الحراري، ويجب البحث في إطلاق استثمارات كبرى للمحافظة على مياهه، بحيث يجري استثمار أكبر كمية من المياه قبل وصولها مهدرةً إلى المتوسط، ومشروع توشكى المتعثر يبدو أحد الحلول الممكنة، ويبدو أن اصطناع مجموعة من البحيرات والمستودعات المائية الكبيرة على مسار النهر وحولها مجتمعات زراعية هو أكبر التحديات التي من المحتمل أن تتحول إلى فرص استثمارية دولية.
الخبراء المائيون اختفوا فجأة من المشهد، لا أحد يريد أن يستمع لهم، وكثير منهم حافظوا على أمانتهم العلمية لتجنب النقد الذي أصبح ينصرف لمهاجمة الشخص والتفتيش في نواياه والتشكيك في إخلاصه، بدلاً من الانصباب على مناقشة أفكاره وطروحاته ونقدها، ويبدو أن قول كلمة حق أمام سلطان جائر لم تعد هي الشجاعة، فمواجهة شعب متحمس وما يحمله من تصورات متوارثة تتطلب شجاعة أكبر وأعمق.
خضعت مقولة هيرودوت «مصر هبة النيل» لفهم مغلوط، فكأن النيل وجد من أجل مصر وحدها، والحقيقة أن مصر هي الإبداع الأكمل للنيل، الذي يدخل بانسيابية إلى الوادي المصري ويجد على جانبيه فرصة ليعبر عن نفسه بعيداً عن الأجواء الاستوائية، وبذلك كانت فرصة قيام حضارة في المصب المصري كبيرة، مقارنة بأي مكان في العالم القديم، وذلك لا ينفي أن شعوب النيل كلها كانت أكثر تحضراً من بقية الشعوب الأفريقية. والمصريون بحاجة إلى تفهم النيل على امتداده لا مجرد النيل من منظورهم الخاص، وضمن هذه الرؤية يمكن لمصر أن تتزعم إقليماً مهماً ووعداً من العالم، تكون إثيوبيا درة التاج فيه، كذلك كانت مصر في عهدها الملكي تتفهم العمق الاستراتيجي، وحاولت المرة بعد الأخرى أن تستولي على المنابع ففشلت المرة بعد الأخرى، فكانت المبادرات في مرحلة عبد الناصر تستوعب طبيعة العلاقات مع أفريقيا ومدى تأثيرها على موقع مصر القيادي على مختلف المستويات، فقيادة مصر العربية ومكانتها في المتوسط تستند إلى عمقها الافريقي، وبدونه ليست مصر إلا امتداداً للصحراء الكبرى.
الساداتية ضربت القيادة المصرية لإقليم النيل، وتصرفت كثيراً في النيل وكأنه جزء من الممتلكات الشخصية للسادات، فالرئيس المصري يهدي اسرائيل مشروعاً لم تطلبه ولم تطمح له مع ترعة السلام التي أرادها أن تمتد من النيل إلى القدس، وبالطبع فإنه لم يتشاور أصلاً مع شركائه الأفارقة، ولم يكترث بردود أفعالهم. ولما كان نظام مبارك لا يرى نفسه إلا امتداداً لسياسة السادات الخارجية التي لا ترى العالم إلى من منظور الرضا الأمريكي، فإنه استمر على إهماله للعمق الأفريقي، بما استفز مشاعر عدائية تجاه مصر لم تكن مصر أساساً معنية بمتابعتها، عدا عن تفهمها ومعالجتها. واليوم يأتي الحصاد المر لتلك السياسة التي وصلت إلى مرحلة العبثية، بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا ليضع الرئيس المصري بمنتهى الشخصنة والنزق كلا من إثيوبيا والسودان في خانة أعدائه، ويدفع المصريين لصراعات جانبية أدت إلى تشويه المفاهيم، كما هو الأمر مع التشوه الذي دخلته مصر في فضائها العربي.
نزعات الانكفاء على القومية المصرية ذات الطابع المحلي ظهرت بصورة موسمية خلال القرن الماضي، وكانت في كل مرة تثبت فشلها في دولة اصطنعها التاريخ لنفسه ورأتها الجغرافيا الثمرة المشتهاة، والوجود في بناية آيلة للسقوط، ونعني أقاليم مصر الأفريقية والعربية، لا يعالج بأن يغلق الباب والشبابيك اعتقاداً بأن الطابق الذي تشغله مصر لن يتأثر بالانهيار وسيتجنبه بمجرد أن يصم آذانه عن التحذيرات التي تنطلق من كل مكان.
مصر حالة نادرة بين كل دول العالم، فربما كانت الدولة الأكثر شعبية في محيطها، وثمة اعتراف بمكانتها لا يرتقي لها أي شك من جيران مصر، لا ألمانيا استطاعت أن تتحصل على ذلك من الفرنسيين أو حتى النمساويين، ولا الصين أخذته من كوريا أو فيتنام، فالمسألة أن مصر بحاجة لأن تعترف بأهمية أبعادها وأن تتفهم احتياجات الشعوب الأخرى التي تشترك معها في تاريخها ومصيرها، والأمر يتطلب تجرداً من مشاعر دعاة المحلية، ومن يستفيدون من وجود عداء غير مبرر ليوجدوا عدواً يعطيهم موقعاً للمزايدة بالوطنية وممارسة الوصاية على الشعور الشعبي، الذي يختلف بالضرورة وبصورة أكيدة عن الوعي الذي تسرقه المصالح الضيقة والرؤية القاصرة للفاعلين السياسيين، الذين يبحثون عن مصالحهم الخاصة في ظل تغييب الميثاق الأكثر عمومية وعمقاً، ففي زمن يرفض فيه مرتضى منصور ما كتبه سيد حجاب عن مصر في دستور المصريين الجديد، فإن الأمور تسير إلى الكارثة بإصرار وعنجهية.
سامح
المحاريق